لا أدري مالذي ساقني لمعاودة المحاولة بعد سنة على مرور الحادثة . حاولتُ مرارًا كتابة هذه الأسطر فإذا بالتفاصيل و حُرقة الفراق و الخوف من الموت تزدحم أمامي هواجسًا تدفعني لأترُك القلم وَ أعدل عن الكتابة.
اليوم بعد مرور سنة أجد نفسي على وجل مستعدة لأخط بعضا مما تجرّعته في صرح فراقها.
رنّ هاتف المخبر ، أجبت فإذا بزميلتي تستصرخني : اصعدي للاستعجالي مروة :الحالة الاستعجالية هي الخالة حبيبة ، تبدو متعبة جدا.
دون أن أنطق بحرف وضعتُ السماعة ، هممت ُبالوقوف ، و أنا أحدث نفسي: أوّل أمس كانت معي و أجرت بعض التحاليل، كانت خائفة أو فزعة . ودّعتني قبل الخروج ببرود ،وضعت سفساريها و أدارت ظهرها بخطى واهية . أوصيتها بنفسها خيرًا و أنا أُحاول أن أطمئنها .
أكّد ابنها الطبيب ان جميع التحاليل و صور الأشعة جيّدة. لمَ كانت فزعةً إذن؟ لم كانت تشكو اختناقًا دائما ؟
شرحت لي ابنتها أن ما تمرُّ به ربما يكون حالةً نفسية ، أو حالة رُهاب الموت .أمضت السنة الأخيرة و هي تتردد على المستشفى دون تشخيص داء معين .
و أنا أصعد الدرج ، تعثرت قدماي بجلبابي حتى كدت أقع ..تذكرتُ قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ})
اللهم ثبتني بذكرك يا رب.
{ وأنّ القوة لله جميعا } اللهم ارحم ضعفي و قوني و لا ُترني بأسًا .
سبحان الله كم بدا الدرج شاقًّا صعودُه ،حرجًا كأنما أصعّد في السّماء ..
دخلتُ و رمقتُها ، لله المُلك سبحانه ، كيف لمَن كان بالأمس يسيرُ بيننا أن يغدو بلا حول و لا قوة رهينَ ضعاف قد كتب ربّي أجلَهم غدًا أو بعد غدْ.
غصّ الاستعجالي بالمُسعفين و الأطباء و لم يكن معها سوى ابنها الذي لم يتوقف عن الذكر و التهليل مُضفيا على الجو هيبةً زادت من حدتها سيرة الخالة حبيبة: جارة المستشفى و جارة المسجد. الكل يدعو و يهلل و يحوقل و الخالة حبيبة لا تحرك ساكنا .
كل المؤشرات تدل انها قد تعرضت لجلطة دماغية و أعراض نزيف حاد في المخ بدت واضحة.
ابتسمت لابنتها قبل خروجها قائلة لا تخافي ، في طريقها إلى المستشفى الذي يبعد امتارًا عن بيتها ضلت الطريق فاستغرب ابنها ، ضحكت و قالت" لا اله الا الله لم أعد أعرف الطريق"
بعض خطوات كانت تفصلها عن توقف قلبها عن النبض على سرير الاسعاف.
في محاولات فريق اسعاف يفتقر لأهم المعدات الطبيبة الاستعجالية تناوبنا على تدليك قلبها مع حقن الأدرينالين في محاولة لاستعادتها ، تقدمتُ و جاء دوري .
سميت الله و انطلقت ..لن أنسى ما حييت تلك اللحظات : أي افتقار لله و إحساسٍ بالضعف و الحاجة للمدد من لدنه سبحانه اعترى فؤادي: { وخلق الانسان ضعيفا } { و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت} {و ما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين}
أي ربّ بحق ما أُحس به الآن اجعلني سببًا لاستعادتها . واحد اثنان ثلاثة
رب اكتب لها ان ترتل القرآن كما كانت ترتل ، رب أُشهدك أنها لم تجلس ولا ركعة في اخر صلاة تراويح لها، و كنت أستحي من تعبي و انا أصلي بجانبها. ربّ أُشهدك انها كانت تبكي قائلة و انا أدعوها للجلوس رأفة بها : "من يعييني على طول الوقوف يوم العرض عليه؟"
رب اسألك بحبها لكتابك أن ترحمها و تكلأها بحفظك، رب أنت العليم اللهم ارحمها و الطف بها ..
تلاشى الحضور من حولي و أنا اكرر الحركات الاسعافية و أتذكر حركاتها و كلامها و صوتها و بكاءها و خشوعها .
هل ستفارقنا ؟؟، لا يا رب.
لم أعد للواقع إلاّ على وقع صوت حاد يدعوني للتوقف ، كانت الطبيبة تدعوني للتوقف منذ دقيقة و انا لا أسمعها الى ان انتهى بها الامر ممسكة يدي لأتوقّف.
عاد قلبها للنبض وجب علينا حينها أن نرسلها إلى المستشفى الجهوي بأقصى سرعة ..
نظرتُ إليها ، اعتلت وجهها زرقة ، و شخص بصرها الى السقف ، استبشر الفريق الطبي خيرا بعودة النبض الا بعضًا ممن كان متأكدا من وقوع النزيف .
كانت نظرتُها كفيلة لتبث في عُراي رُعبا من اللحظة الأخيرة ؟ تلك اللحظة التي نرجىء التفكر فيها {و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}
مهما حِدْنا { كلّ نفس ذائقة الموت}.
ُترى مالذي رأته ؟ مالذي تُحسه الآن؟ هل تسمعنا؟ لو نطقت ماذا ستقول؟
لبثت الخالة حبيبة يومين أو ثلاثة في العناية المركزة لكن النزيف قد أتى عليها ففارقت الحياة .
كانت أميّة أبصرت النور على أيادي بعض أستاذة محو الأمية الذين كانت تدعو لهم دائما ، سخّرت كل وقتها وجهدها لحفظ كتاب الله ، تعلمت أحكام التجويد و حفظت عدّة سور و صارت ترتله آناء الليل و أطراف النهار . و رغم تمكنها من القراءة من المصحف كانت تُحبذ الحفظ من اللوحة على طريقة الكتّاب التقليدية.
أتذّكّر أنها عندما شرعت في حفظ سورة الفتح بكت بكاءً حارّا قائلة" أليس فتحا من الله علي أن أبلغ سورة الفتح.؟"
كانت بكّاءة كثيرة التدبر في كتابه ، لم أر بحياتي حبا كحبها لكتاب الله ،
حدثتني قبل ختام سورة آل عمران أنها رأت فيما يرى النائم منادٍ يقول يا أخوات اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون .ولم تكن تعلم حينها ان هذه الآية هي ختام سورة آل عمران . و قد رأيت تأويل رؤيتها حقا و لا زلتْ.
ترى من الذي يلي الخالة حبيبة.؟
تُرى من المقبول فنهني و من المطرود فنعزي ؟
ترى بماذا سيختم لنا؟
اللهم رحمتك.