جاوزت أماني سنتها الرابعة في صراعها مع مرض السرطان ، أتذكّر جيّدا لقائي الأوّل بها ذات مساء، كانت  تتلوّى ألما، لم تكن تعلم حينها أنّها ابتليت بأحد أعتى أنواع السرطان الذي يصيب الأطفال.
أربع سنوات و أماني و عائلتها يكابدون مرضًا و فاقةً اجتمعا بهم و لا عزاء و لا سلوى إلا بعض الإعانات المتفرقة.
أبٌ جاوز الخمسين من عمره  يكسب قوت يومه من بعض الأعمال اليومية.
و أمٌّ تلهث لتربية ستّة أطفال انقطع ثلاثة منهم عن الدّراسة.
تم تشخيص إصابتها في مرحلة متأخرة ، و بالرغم من ذلك صمدت أماني بقدر الله ، و تعددت  مراحل إصابتها الإكلينيكية .
فمن مميزات مرضها أن  تتراوح تطوراته من ضمور تلقائي  كبير الى انتشار فتاك سريع و قد مرّت أماني بهما على التوالي.
لسنين و أماني تقطع أربع مائة كيلومترا لتلقي العلاج ، طريحة مقاعد الانتظار في محطات النقل العمومية تلفح بشرتها أشعة الشمس الحارقة.
صحبتُ أمها منذ اكتشافها إصابة ابنتها ، و لم أسمع منها يوما كلمة تذمّر أو شكوى أو سؤال حاجة ..
أجرت أماني ثلاث عمليات لاستئصال الورم ، واستوفت مؤخرا حقها في جلسات الكيماوي و الأشعة ، وذاقت لفترة حلاوة الاستقرار و عادت إلى مدرستها ، لكن لم يكن ذلك ليدوم ..
أشارت الفحوصات أن المرض قد انتشر بسرعة خبيثة في كامل جسدها ، و قد بلغت تلك المرحلة التي يتراجع فيها الجميع الى الوراء.
و رغم كل هذا أبت عائلتها إلاّ أن تطرق كلّ الأبواب حتى بعد إعلامهم أن قد وصلت إلى مرحلة صعبة ، أصرّ الأب  أن يغير المستشفى أو يسافر بها إلى فرنسا ، اقتراحات سرعان ما عدل عنها لقصر ذات اليد و لعدم تشجيع الاطباء المتابعين.
اتّصلت بي طبيبتها أخيرا لتطلب المساعدة في محاولة لإقناع العائلة مع احترامها الشديد لعدم تقبلهم الأمر لكن طلبت مني أن أقنعهم أن لا فائدة ترجى من المواصلة .
"Elle va passer dans des semaines" ستمضي بعد أسابيع كانت تكررها بدون توقف
كانت تكررها بكل ثقة ، لم أقاطعها حتى استأذنت لكثرة مشاغلها ، "ستمضي في غضون أسابيع".تقبل هذه الجملة ؟
لطالما شكل مرض السرطان معضلة بالنسبة لي، بيني و بين الاقتناع ان لا دواء له خصومة قديمة.
بين تواضع مستوى البحث الطبي في بلدنا و غطرسة شركات الادوية المتغولة يتأرجح مرضى السرطان لينغمسوا في رحلة حصص الكيمياوي و الاشعة التي تعد في حد ذاتها مسرطنة.
 لماذا وقر في قلبي منذ وطات قدماي هذا القطاع ان لا فائدة من خوض رحلة العلاج خاصة اذا اكتشف في مراحل متاخرة ؟
الله على كل شيء قدير و اذا مرضت فهو يشفين ، الله قادر على مسح الالم و ازالة السقم انا مؤمنة اتم الايمان بذلك ، لكن لماذا لا املك هذا اليقين الجازم لاواجه امها 
. واقنعها بذلك ، لماذاتراجعت أنا أيضا إلى الوراء
في أيّامها الأخيرة تفاقم ألمها و صار كل من يقترب منها لا يتمالك نفسه من أن يجهش باكيا ..الكلُّ بات يتهرب من أن يخزها بإبرة أو يأخذ من يدها الهزيلة عينة دم .
ُفي آخر مباشرة لي، كانت تبكي من الألم و هي تقول يا رب ارحمني يا رب ، بنت العشر سنين تجوب أقسام المستشفى ليلا وهي .
تئنّ :" يا رب اشفني يا رب ارحمني "
اللهم خفف عن أولئك الذين تعلم وجعهم و ارحم ضعفنا و ضعفهم


عاينتُ اليومَ إصابةَ طفلٍ صغيرٍ بمرضٍ خطير في الدّم و كانت اللحظة الأسوء تلك التي اضطُرِرْتُ فيها أن أشرحَ و لوْ نسبيًّا أهميةَ الأمرِ لوالدِه الذي أبى إلا أن يُقنِع نفسَه أنَّ الكدماتَ الزرقاءَ في جسد ابنه هينة ، و تكبّدتُ عناء سماعِ أُم مكلومةٍ تستشيرني هل يجدي نفعًا أنُ تسافر بابنتها التي تُصارعُ السّرطانَ منذُ أربعة سنواتٍ الى فرنسا بعد أن تبيعَ قطعةَ الأرض وما تبقّي من رِزقها أم تُسلمُ الامرَ لله كما أشار الأطباء.. و تمالكتُ نفسي لأُواصل الإصغاء لنحيب أُمٍّ تحمل "قشبية" ابنها المتوفي منذ أيّامٍ لتبيعها و لتتخلّصَ من بُكاء ابنته التي تنهار كلما رأتْها..و ختمتُ دوامي بأخذ عينة دم لامراةٍ تُحتضر وسط نحيبِ أهلها ..
بعد كلّ هذا عليّ الآن تلبيةُ دعوة صديقتي لحفل زفافها : عليّ الإعتراف أن لقائي بالمرآة لأرتّبَ وعثاء العمل أصعب بكثير مما مررتُ به صباحا: شيء ما عالق في حلقي، شيء ما لا يفارقُ ذهني و أنا أُحاول الاسترخاءَ ، وُجوهٌ و رداتُ فِعلٍ تُجاه الفاجعةِ و عبَراتٌ و هوَاجسٌ تزدحمُ في ذهني و أنا أغمضُ جفني لأكتحل، شيءٌ ما يَصُدُّني عن التظاهرِ بأن لا شيء يُعكِّر مِزاجي ,,
لا زلتُ لا أُتقن وضعَ فيصلٍ حازمٍ بين كُل الأدوار.
بات من الشاق التخلُّصُ من عوالق العمل على الحياة الخاصة
بات من المؤرق ان تكون عونَ صحة "إنسان"
يوميّاتي

لا يقدّر ما تفعله  الاّ الله عز و جلّ
و لا يعلم قدر ما قدّمته الا الذي يعلم ما أخفيت عنهم و ما أُمرت بأن تستره عنهم
دع الناس لبارئهم و لا تُرهقهم باستجداء إكرامهم و تقديرهم لك 
بعض الاهتمام و الاكرام اذا طلب فسد طعمه  صار مُرًّا حنضلا 
كُن عونا للناس و لا تطلب العون من أحد
كُن يدًا عُليا و لا تكن منتظرا عون أي يد 
الوحدة أحيانا أحلى بكثير من وجود يساء فيه فهمك 
لا تبتئس إن  عاملك الناس بأقل مما كنت تتوقع 
لا تلُمهم الله أعلم بأحوالهم و ما يعانون ربما يخفون خلف سوء فهمهم لك قلوبا طيبة نقية فقط لا تزد من إرهاقهم بلومهم 
لا أحد يبالي في الحقيقة 
هي دار كدر يا رفاق فلا تعلوا سقف أحلامكم...فيها




أشدّ ما يجد المرء في هذه الحياة الدنيا المحافظة على نقاء قلبه و صفاء سريرته وحسن ظنّه وقد ابتلي بمخالطة العباد ،فلا اعسر على المؤمن من توقّي لفح كير جلساء السوء و الترفع بثوبه عن براثن الرذيلة و كبح طوفان الشهوة عند القدرة على المعصية وغض الطرف عما متع به الغير
و الله المستعان على كلّ حزن.
لا أدري مالذي ساقني لمعاودة المحاولة بعد سنة على مرور الحادثة . حاولتُ مرارًا كتابة هذه الأسطر فإذا بالتفاصيل و حُرقة الفراق و الخوف من الموت تزدحم أمامي هواجسًا تدفعني لأترُك القلم وَ أعدل عن الكتابة.
اليوم بعد مرور سنة أجد نفسي على وجل مستعدة لأخط بعضا مما تجرّعته في صرح فراقها.
رنّ هاتف المخبر ، أجبت فإذا بزميلتي تستصرخني : اصعدي للاستعجالي مروة :الحالة الاستعجالية هي الخالة حبيبة ، تبدو متعبة جدا.
دون أن أنطق بحرف وضعتُ السماعة ، هممت ُبالوقوف ، و أنا أحدث نفسي: أوّل أمس كانت معي و أجرت بعض التحاليل، كانت خائفة أو فزعة . ودّعتني قبل الخروج ببرود ،وضعت سفساريها و أدارت ظهرها بخطى واهية . أوصيتها بنفسها خيرًا و أنا أُحاول أن أطمئنها .
أكّد ابنها الطبيب ان جميع التحاليل و صور الأشعة جيّدة. لمَ كانت فزعةً إذن؟ لم كانت تشكو اختناقًا دائما ؟
شرحت لي ابنتها أن ما تمرُّ به ربما يكون حالةً نفسية ، أو حالة رُهاب الموت .أمضت السنة الأخيرة و هي تتردد على المستشفى دون تشخيص داء معين .
و أنا أصعد الدرج ، تعثرت قدماي بجلبابي حتى كدت أقع ..تذكرتُ قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ})
اللهم ثبتني بذكرك يا رب.
{ وأنّ القوة لله جميعا } اللهم ارحم ضعفي و قوني و لا ُترني بأسًا .
سبحان الله كم بدا الدرج شاقًّا صعودُه ،حرجًا كأنما أصعّد في السّماء ..
دخلتُ و رمقتُها ، لله المُلك سبحانه ، كيف لمَن كان بالأمس يسيرُ بيننا أن يغدو بلا حول و لا قوة رهينَ ضعاف قد كتب ربّي أجلَهم غدًا أو بعد غدْ.
غصّ الاستعجالي بالمُسعفين و الأطباء و لم يكن معها سوى ابنها الذي لم يتوقف عن الذكر و التهليل مُضفيا على الجو هيبةً زادت من حدتها سيرة الخالة حبيبة: جارة المستشفى و جارة المسجد. الكل يدعو و يهلل و يحوقل و الخالة حبيبة لا تحرك ساكنا .
كل المؤشرات تدل انها قد تعرضت لجلطة دماغية و أعراض نزيف حاد في المخ بدت واضحة.
ابتسمت لابنتها قبل خروجها قائلة لا تخافي ، في طريقها إلى المستشفى الذي يبعد امتارًا عن بيتها ضلت الطريق فاستغرب ابنها ، ضحكت و قالت" لا اله الا الله لم أعد أعرف الطريق"
بعض خطوات كانت تفصلها عن توقف قلبها عن النبض على سرير الاسعاف.
في محاولات فريق اسعاف يفتقر لأهم المعدات الطبيبة الاستعجالية تناوبنا على تدليك قلبها مع حقن الأدرينالين في محاولة لاستعادتها ، تقدمتُ و جاء دوري .
سميت الله و انطلقت ..لن أنسى ما حييت تلك اللحظات : أي افتقار لله و إحساسٍ بالضعف و الحاجة للمدد من لدنه سبحانه اعترى فؤادي: { وخلق الانسان ضعيفا } { و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت} {و ما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين}
أي ربّ بحق ما أُحس به الآن اجعلني سببًا لاستعادتها . واحد اثنان ثلاثة
رب اكتب لها ان ترتل القرآن كما كانت ترتل ، رب أُشهدك أنها لم تجلس ولا ركعة في اخر صلاة تراويح لها، و كنت أستحي من تعبي و انا أصلي بجانبها. ربّ أُشهدك انها كانت تبكي قائلة و انا أدعوها للجلوس رأفة بها : "من يعييني على طول الوقوف يوم العرض عليه؟"
رب اسألك بحبها لكتابك أن ترحمها و تكلأها بحفظك، رب أنت العليم اللهم ارحمها و الطف بها ..
تلاشى الحضور من حولي و أنا اكرر الحركات الاسعافية و أتذكر حركاتها و كلامها و صوتها و بكاءها و خشوعها .
هل ستفارقنا ؟؟، لا يا رب.
لم أعد للواقع إلاّ على وقع صوت حاد يدعوني للتوقف ، كانت الطبيبة تدعوني للتوقف منذ دقيقة و انا لا أسمعها الى ان انتهى بها الامر ممسكة يدي لأتوقّف.
عاد قلبها للنبض وجب علينا حينها أن نرسلها إلى المستشفى الجهوي بأقصى سرعة ..
نظرتُ إليها ، اعتلت وجهها زرقة ، و شخص بصرها الى السقف ، استبشر الفريق الطبي خيرا بعودة النبض الا بعضًا ممن كان متأكدا من وقوع النزيف .
كانت نظرتُها كفيلة لتبث في عُراي رُعبا من اللحظة الأخيرة ؟ تلك اللحظة التي نرجىء التفكر فيها {و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}
مهما حِدْنا { كلّ نفس ذائقة الموت}.
ُترى مالذي رأته ؟ مالذي تُحسه الآن؟ هل تسمعنا؟ لو نطقت ماذا ستقول؟
لبثت الخالة حبيبة يومين أو ثلاثة في العناية المركزة لكن النزيف قد أتى عليها ففارقت الحياة .
كانت أميّة أبصرت النور على أيادي بعض أستاذة محو الأمية الذين كانت تدعو لهم دائما ، سخّرت كل وقتها وجهدها لحفظ كتاب الله ، تعلمت أحكام التجويد و حفظت عدّة سور و صارت ترتله آناء الليل و أطراف النهار . و رغم تمكنها من القراءة من المصحف كانت تُحبذ الحفظ من اللوحة على طريقة الكتّاب التقليدية.
أتذّكّر أنها عندما شرعت في حفظ سورة الفتح بكت بكاءً حارّا قائلة" أليس فتحا من الله علي أن أبلغ سورة الفتح.؟"
كانت بكّاءة كثيرة التدبر في كتابه ، لم أر بحياتي حبا كحبها لكتاب الله ،
حدثتني قبل ختام سورة آل عمران أنها رأت فيما يرى النائم منادٍ يقول يا أخوات اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله لعلكم تفلحون .ولم تكن تعلم حينها ان هذه الآية هي ختام سورة آل عمران . و قد رأيت تأويل رؤيتها حقا و لا زلتْ.
ترى من الذي يلي الخالة حبيبة.؟
تُرى من المقبول فنهني و من المطرود فنعزي ؟
ترى بماذا سيختم لنا؟
اللهم رحمتك.
بعد غيابٍ عن المرضى دام لأسبوعِ فقط ، أحسستُ وأنا أُصافح وجوههم الشاحبة و ألمحُ بياض شفاههم و أتخطى صفّهم الطويل و أتعثّر فيمن ألقى بجسده المُنهك على الأرض وأستمع لغوغاء تذمّراتهم و شكواهم، بمزيج غريب من المشاعر.
الإشتياق ، الشفقة، انعدام الحيلة ، الرغبة في الإصلاح، الرّغبة في الإحتواء..
عدلتُ عن تشفير ما يُخالجني ، وراودتني فكرةُ ^^
لم لا أعبّر لمريضاتي عن اشتياقي لهن وعن ورودهن بخاطري في إجازتي، و أنّي تسائلتُ عن مدى اتبعاهنّ لحميتهن، و تناولهن لدوائهنّ وصحّة اللات تركتهن في حال سيّئة ؟
هممتُ بسرعة بتنفيذ الفكرة قبل أن يسوء مزاجي في ظلّ الظروف غير الانسانية للعمل
كانت النتيجة رائعة ..وجوه تستنير و وابل من الدعوات التي تلامسُ القلب و تهلل أسارير و ارتياح في الحديث ، و طرح للهموم.
المريض منكسرُالخاطر، عليلُ النفس، ظمآن لما يُعينه على تجاوز ابتلائه و الكلمة الطيبة أو الابتسامة أوالمزحة خيرُسبيل لذلك.
كم أتمنىّ أن تتحسّن ظروف العاملينَ في مؤسسات الصحة العمومية ليجدوا تلك الفسحة التي من خلالها يُشرقون بانسانيتهم لتتمَّ عافيةُ المريض النفسية و البدنية.
و على قدر التماسي لأعذار لسوء مزاجهم المتواصل على قدر دعوتي لهم و لنفسي أوّلا لتكبّد عناء المحافظة على القدر الأدنى من لُطف العبارة و الإبتسامة والسؤال بإهتمام عن حال المريض و مُلامسة حنايا الألم في شكواه.
غفر الله تقصيرنا.


تُراني قد استسلمتُ يا أُمّي؟ الحسرة تضطرم نارًا في أحشائي ..دخول سلسلة التنازلات يُخيفني تُجتث أوصالي من ثوابتها، ترتعد له فرائصي ..تنتابني رجفة و يتصبب من جبيني عرق باردٌ يا أمّي : من دخل سلسلة التنازلات قلّ أن يخرج منها ،من تنازل في الأولى يتنازل في الثانية و من انفلتت منه النظرة تنفلت منه الكلمة ومن زهد في النافلة يزهد في الفرض ومن ألقى العنان لهواه صار عبدا له و من هرب من المواجهة حاد عن الطّريق ..

لنا الويل يا أُمّي مما تكتب اقلامنا و تهرف به ألسنتنا و تشتكيه لله أفعالُنا ، بأيّ وجه سنلقاه يا أمّي ؟ أبهذا الهوان عند الشدائد و التأرجح عند المحن ، أبهذا الشتات عند الرخاء و الغفلة في السخاء..
لا أرى سبيلا لخلاصنا إلاّ الدّعاء أن يتغمّدنا برحمة منه و فضل ، فحبوب الخردل أثقل منّا و لعلّها أثبت في مهب رياح زماننا منّا.
عندما كان مرضى التخمة و السكري من بعض اغنياء المدينة  يعربدون و يزمجرون أمام المخبر مننتظرين دورهم لاجراء التحاليل انتصب هو صامتا هادئا وقد غطى نصف وجهه بشال، لمحت يدا تمتد اليه لتدفعه حتى كاد يقع لم يقل شيئا بل لم يلتفت حتى
شيء ما شدني ، ربما كما قال لي ابي ذات يوم " ستنمو لديك ملكة التمييز بين المتالمين صدقا و الممثلين و لتعلمي ان اغلب من يتالم بعمق يتالم بصمت ."
تجاوزت الجمع حتى ادركته وقلت : اخي
انتفض ملقيا الكيس نعم انسة
قلت : تفضل بالدخول
لمحت وراءه فتاة وججها كفلقة القمر سبحان الله ما اجملها، استاذن قائلا هل يمكن ان تدخل معي لا استطيع تركها خارجا
قلت : اكيد تفضلا
جلس على الكرسي و اختبات الفتاة وراءه وهي لا تفارق يده
دفع الي بوصفة التحليل ودون مزيد تخمين كان من قسم السرطانيات ..
تمالكت نفسي، و تظاهرت بالتخفيف عنه  حتى استجمع الكلام و ارتب افكاري بين سؤاله عن مرضه عن وضعه المادي عن الاطفال
سالته: مم تشكو يا اخي؟
قال ولا يزال متمالكا نفسه اصابني "بحمد الله " السرطان عام ثمان و تسعين و ها قد عاودني انا اخضع  للكيمياوي الآن انا اتالم كثيرا يا انسة، انا اموت الما وقبض على ركبته دون ان يذرف الدمع ..
تراجعت الى الوراء و تظاهرت بالكتابة ..ولكن للاسف خارت قواي وتعالى صوت بكائي
لاحظ الامر فانفجر: يا اختي لكل اجل كتاب لكن بالله عليك من لهؤلاء؟ من لابنتي؟ انظري اليها ،انظري اليها يا ربي مزالت صغيرة، لقد انقطعت عن الدراسة؟ لم ادرس  انا و لن تدرس هي. 
لم ار بحياتي حرقة كحرقته على ابنته و هو يتحدث عنها  و عن انقطاعها عن الدراسة 
"أرأيت هذا الكيس انا ذاهب الى السوق الآن لاجمع بقايا الخضروات انا في تونس انا" اموت مرضا و جوعا لم اعد اقدر يا اختي هذا عمري لينقضي كما ينقضي لكن اطفالي يا ربي اربعة اطفال من بهم؟
 ضرب على ركبته و طاطا براسه باكيا حتى ارتمت الفتاة في احضانه  والعبرة تخنقها
"يا اختي اربعة اطفال من بهم ؟ يتولاهم ربي ,,,يتولاهم ربي"
هالني الامر، لم تكن الفتاة غير مبالية كسائر ابناء عمرها بل قد بلغت منها  اللوعة .مبلغها..
تقدمت زميلتي لاخذ عينة الدم بعد عناء لضمور اوردته وهو يغمض عيني ابنته كي لا تتالم لالمه ،وقف  مغادرا فسالته عن امكانية رجوعه يوم الاثنين ،
فاجابني "والله يا اختي لم اعد اقدر هل من  الممكن  أن  ارسل من ينوبني انا لا استطيع".. و بكى
قلت :لا عليك  المهم ارسل لي من تثق به يوم الاثنين،
  حيّانا بادب و امتنان و قال لابنته قبلي خالتك ومضى وهو يعرج
لازلت اتمنى كسب زميلتي الرهان يوم قالت "سترينهم كل يوم و ستعتادين 
وهاهي السنوات تمضي و لم اعتد و لم اهنأ بنوم و لاطعام وانا انتظر
انتظرت الاثنين ثم الثلاثاء فالاربعاء ولا اثر له، تذكرت اللقب، فهاتفت بعضا ممن حسبت انهم من نفس المنطقة
فاجابتني الاخت دون تردد" اه فلان رحمه الله قد توفي منذ يومين بعد اقتلاع ضرسه..هل قابلته في المستشفى ؟
كان تكرارها "آلو ...آلو مروة انت معي؟" آخر ما اتذكره من المكالمة التي لا اعرف كيف انهيتُها ..
كان يقف في الصف و المرض قد نهش جسمه ،  كان ينتظر دورًا لاجراء تحاليل لمقابلة طبية باغتته المنية قبلها،
 كان يومها يودع بحرقة ابنة لم يلبثْ الا ان فارقها
 كان اجله يقترب و هو يعلم و لا يتألم الى لحال ابنائه بعده


**************************************************************

موجودون في كل مكان من الارض هنا و هناك 
لا ندري ما يكابدون و ما يتجرّعون 
بعضهم قد وصلتنا معاناته و الآخر يئنّ في صمت 
شعثُ غبرٌ مدفوعون بالابواب 
عسى الله ان يجعلهم مقبولين في السّماء