توقفت لأتأمل تلك القصة طويلا
أضفت هيبة مُحدثنا و هدوءه على الحديث شيئا من الغموض زاد البيان وقعا.
صوت أجش ممزوج بحشرجة تحكي سنينا مكلومة
زفرات تتخلل جملا طويلة لا تنتهي إلا بحوقلة واسترجاع.
شيء ما شدني حد الذهول و الدهشة كيف للمرء أن يترجم أخاديد الألم حكاية بهدوء عبارة ورصانة فكر دون أن يخر صعقا لهول قسوة الذكريات.
كيف للكلام أن يستحيل تُرجمانا لألم شامخ ذي أنفة تُخرج صداه من قعر الكتمان إلى فسيح الكون نبرةُ صوت لا تجاوز الهمس.
أبدع في سرد قصته دون أن يشتت ذهن السامع بجزع عبارة أو سخط شكوى أو حدة صوت.
استسلم بشموخ لنزيف البوح ليرجع لسنين خلت فيسوق ذكريات قُبرت دون أن يُنبش يوما ضريحُها.
حدثنا عما تشيب له مفارق الولدان ..لكن ما راعني و حزّ في نفسي إلا قدرةُ الإنسان على إيغار جرح أخيه الإنسان!
وكيف يمكن للطفل أن يرتدي حلة الشيطان!
حدثنا عن ابن عمه و صديقه الذي تفنن في رسم أسوء الذكريات على مدى العمر ليرتقي إلى مدى التاريخ.
كابد الشيخُ سجنا وتعذيبا وهرسلة وإهانة غير أني ما رأيته نازفا إلا في حديثه عن هذه الذكرى.
مرضت أمه وغاب نور حنانها ودفىء بيانها عن مجامع كيانه
تمزقت عراه شوقا لعودتها وهي تكابد مرضا وفاقة اجتمعا بها.
تخيل معي ما حل بذلك الطفل الصغير البريء من شوق كاوٍ لأمه.
وتفنن ابن عمه ليزيد اللكع لكعا فكان كل يوم بعد عودته من المدرسة يخبره بأن أمه قد عادت من المستشفى فيطير الصبي فرحا للقياها مفتشا عنها في أرجاء المنزل متشبثا بأمل اللقاء غير أنه لا يحصد إلا خيبة الفقد جمعت بخيبة الاستهزاء.
كل يوم تتكرر المزحة أو الطعنة ..أكانت براءة الأطفال أم سذاجتهم تلك التي تحدوه لتصديقه في كل حين ..
كلا بل كانت نيران الشوق الكاوية تركله ليتشبث ببصيص أمل ليسرع إلى المنزل. منزل غاب نوره بمغيب أمه و زاد من عتمته قسوة المقربين.
أيْ ابن عم.. هلا حنوت ؟
كلا ..
فيزيد من بؤسه طعنة على غرة فتسول له نفسه أن ينزله في الماجن ويرخي الحبل حتى إذا ما بلغت المياه الحنجرة وحشرج الصدر وارتعدت الفرائص لحرارة الغرق انتابت المجرمَ مُرخي الحبل نوبات ضحك جنونية فيجذب الحبل غير مشفق بل ليعيد الكرة مرات و مرات.
يحدثنا ويحاكي ضحكه الذي قطع أوصالي.
 وددت لو يتوقف عن تقليده لكنه كأنما بالغ في تلك الضحكة ليزيدها شيطنة وليزيد الذكرى هيجانا.
سبحان الله كيف استجمع قواه ليسرد القصة دون أن ينهار ؟
أنا التي لم تبق في جسدي خلية لم تجزع لما سمعت..
يتبع..
الله يعلم سلوكك لدرب كان أيسر ما يكون تركه و العزوف عنه و كل ما في الكون يدعوك لهجره.
الله يعلم أنك عندما اشتبكت بك السبل سلكت تلك الطريق التي أحسست فيها بالأمان عند استحضارك لاطلاع الرب عليك.
الله يعلم كم وبّخت نفسك و كم شدّدت عليها طورا و أرخيت لها العنان أطوارا.
الله يعلم أنك لم ترد بالناس إلا خيرا و ما فكرت يوما أن تزول نعمة منعم على مُنعَمٍ عليه.
الله يعلم أنك ما سلكت سبيل الردى و الخنوع أيام فقرك و فاقتك.
الله يعلم أنك أحببت أن تنجو و حسبت أنك تسلك درب النجاة.
الله يعلم أنك خلطت عملا صالحا بآخر سيء،  غفلة و ضعفا و خذلانا من نفسك.
الله يعلم كل ما مر بك منذ خرجت من بطن أمك إلى حين آخر نفس لك في الدنيا. 
الله يعلم و يقدر 
الله أحق أن ينقذك.
مُذْ دخلت قطاع الصّحّة العموميّة إلى يومنا هذا و أنا أستجير بالله ممّا أسمّيه "وباء الحضور البائس" عافانا الله و إيّاكم من هذا البلاء و أن يشفيني ربّما ممّا لحقني منه لأنّه يبدو مُعْديا و لعلّني أسردُ بعض أعراضه :
البُِؤسُ في الرّدود ، رتابة التّحيّة و جفافها ، النظرة الاستكشافية المُحقّرة التي تُلقى في وجه من يلقونه أوّل مرة ، الاجتهاد المُتقن في بعث عدم الارتياح في نفس زميلة جديدة يمكنُ أن يصل لتجاهلها و عدم إلقاء التحية عليها حتى تُبادر هي ، الحضور البائس أو دعنا نقول مُتلازمة الحضور الذي يوحي بالموت يتميّز ببلادة الإجابة ، تتفيه وتقزيم كلّ فكرة و كلّ تجديد، بعث الإحساس بانعدام الإنجاز، و التفنن في محاولة إقناعك بأنك لست مميّزا ، كتم الكلمة الطّيبة ، نُكران الجميل ، عدم ملاحظة أي شيء جديد تقوم به و حالة من شلل اللسان أمام استحسان كل جميل و عدم الثناء عليه حتى لو كان زوج أحذية أو حقيبة جديدة .
التفاني الكبير في إقناع أي زميلة تأخّرت في الزواج أو الإنجاب (و لعلّها لم تتأخّر البتّة) أنها كائن منبوذ اجتماعيا معوق ذهنيا مُعْتل نفسيّا : يُعاني داء عضال، فاشل على جميع الأصعدة حتى "تعمل حويجة" ، المواضيع التافهة ، سطحية النّظرة ، و سذاجة الأحكام إضافة إلى سوء الظنّ و التّلون و تعدد الوجوه و "الصّبة".
تحيّة لكلّ عون صحّة متفاءل و مبتسم و يحيّي زملاءو بنشاط و حيوية و يقول "صحة و محلاها لبستك و محلاك كي تضحك" و ما يتدخلش في خصوصيات الاخرين و ما يعطيش ملاحظات ماصطة و يبادر بالسؤال عليك و يثني على مجهودك ويحسن الظن و ما يتلونش و ما يبخلش بكلمة الحق و يخدم خدمتو ويروح من غير ما يؤذي حدّ.
:)
ناولني الأب وصفة الطبيب لإجراء تحليل بصفة استعجالية .
لمحتُ على وجهه قلقا اعتدتُ رؤيته على وجوه الآباء كلما حام مكروه بفلذات أكبادهم..
أرسلته لاتمام الخلاص و قلبي يتفطر لحالته الرثة.
كعادة البسطاء الصادقين لم يجادل ممتثلا للقانون .
ناديته "أدخل ابنك لآخذ العينة. "
دخل الإبن فإذا به طفل في سن المراهقة اعتلت وجهه صفرة و شحوب أميزه عن غيره . علامات فقر دم حاد بدت تلوح في الأفق.
نظرت إلى ثيابه تلطخت بانواع طلاء و غبار . بسط ذراعه لأخذ العينة فإذا هي متورمة. 
سألته تحس بإنهاك ؟ بألم معين؟
قال نعم إنهاك شديد يا آنسة . لم أكن هكذا .. لم أعد أستطيع المشي . 
يا آنسة حتى بابا ماعادش نجم نعاونو في المرمة 
انفجر باكيا و قال 
بابا كبير ماعادش ينجم و انا البالة ماعادش نجم نهزها. وضرب فخضه حسرة. تساقطت دموعه على الأرض!
كعادة المخبر في إهدائه جرعات هائلة من الألم أتشاطرها مع المرضى إلا أن دموع الابن الملتاع لعجزه عن إعانة أبيه في البناء لكسب لقمة العيش ملأت قلبي أسى ووجداني لوعة.
أدخلتُ العينة في الآلة و لم يخطىء تشخيصي نسبة ايموجلوبين تقل عن 3.00 
 فعن أي "مرمة" تتحدث يا بني. 
شُعثٌ غبر مرضى  فقراء منهكون معدمون مجهولون في الأرض عسى الله أن يجعلهم مقبولين في السماء..

و أنا أختم مهام اليوم وأهمّ بإغلاق دفاتر مذكراتي و بعض كتيباتي
بعد استرجاع شريط يومي : ساعات عملي و سويعات أقضيها مع  عائلتي و خدمة خاصة أهلي و نفسي و غيرها مما تنصرف فيه الأعمار.
صوت واحد يتكرر حد الإزعاج.
أحاول تجاهله.. لكتّه بات فعلا يزعجني ..
صوت واحد يملأ جمجمتي يزيد من فوضاها و يؤجج سعير أرقي.. صوت واحد ما فقهت أيوقظني أم يدميني ؟ أمشفق ممّا عم به البلاء أم راج أن أصبر نفسي مع الذين يضيفون للبرية شعاعا؟
أناصح مُشفق. أم  مُثبط حاقد  أم صاحب حقيقة مرة.
صوت واحد يحذرني.. و يلقي في وجهي ملا يجرؤ أحد على إلقائه.
صوت واحد يتكرر كوخزات إبرٍ على غِرة
صوت واحد يهتف:
" توشكين أن تنطفئي...رجاء لا تنطفئي"

ألا يا أيها الشاكي .. هُموما كِدْتَ تُخفيها
فما يُغنيك من لأوى .. إذا خمدت تُداريها
وها قدْ سارَ ركبُهُمُ... يُغيرُ الارضَ يطويها
وقد خارت مطيّتُكَ ... فبتَّ اليلَ تبكيها
أيا من رُمتَ بُغيتهم... بِصِدق القصد تفديها
فلا تجزع ولا تحزن...  لعلّ الله يُدنيها

أتعلمين يا تيماء كلّ ما كانت تتمناه صُويحباتي قد نِلتُه.. الشهرة، كثرة الثناء،  الجمال المال و كثرة الخطاب..
كل يوم كان يزداد نصيبي مما ذكرته أكثر و كل يوم يزداد زهدي فيه  أكثر  و كل يوم كان يزداد حظي من البؤس و الشقاء أكثر .
و كأنني أتمثل قول انس بن مالك رضي الله عنه"   اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه و سلم.
توقفي عن غبطة الآخرين صغيرتي فيما يبدو  لك من زهرة الحياة الدنيا معيذة إياك من حسدهم على ما لا تملكين.
لكلّ يا حبيبتي نصيب و نوع من الشّقاء.
و لعلّ ما يبدو لك سبب  أنس و بهجة  هو في الحقيقة موضع اللُّكْع و شق التصدُّع.
  هل أتاك نبأ استحالة النعمة إلى نقمة..؟
أجارك الله يا تيماء ..
#رسائلها_إليّ